منهج مصر في عدم التدخل العسكري في سوريا واليمن

> محمد أبوالفضل:

> ​في كل أزمة إقليمية أو صراع مسلح بإحدى دول الجوار يتنامى الحديث عن تدخل مصر عسكريا. ظهر ذلك مع نشوب حروب في سوريا واليمن وليبيا وأخيرا السودان، وكانت العيون والآذان في كل مرة تصوب نحو القاهرة بانتظار ردة فعلها، مع زيادة ترسانتها العسكرية في السنوات الماضية، وتوقع الاستعداد لتدخلات خارجية.

تردد السؤال مؤخرا مع رواج معلومات قالت إن قائد الجيش السوداني الفريق أول عبدالفتاح البرهان طلب مساعدة سلاح الطيران المصري لفك الحصار الذي تفرضه قوات الدعم السريع على العاصمة الخرطوم، وجاء الرد الذي حصلت عليه "العرب" بالممانعة، اتساقا مع منهج القاهرة في عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى.

في كل الحالات التي تردد فيها سؤال متى تتدخل مصر عسكريا في أزمات الدول السابقة، كان الطرح مبنيا على اعتبارات فرضتها دواعي الأمن القومي المصري، والذي له علاقة وثيقة بمدى الأمن والاستقرار في الدول الأربع.

تعد سوريا رمانة ميزان في أمن مصر الشمالي وثمة ارتباط عضوي بين جيشي البلدين منذ زمن طويل، ويمثل اليمن بوابة مهمة لمصر ومن مفاتيح الهدوء في ممر البحر الأحمر كمدخل لقناة السويس من ناحية الجنوب، وليبيا تربطها حدود بمصر تمتد نحو 1200 كيلومتر من ناحية الغرب، وهي المساحة نفسها تقريبا من ناحية الحدود الجنوبية مع السودان الذي تتصاعد أهميته بحكم ارتباطه بملف مياه النيل.

دخلت حسابات التدخل العسكري المصري في الأزمة مع إثيوبيا عقب شروعها في بناء سد النهضة دون اتفاق مُلزم مع القاهرة والخرطوم، وصعد هذا الخيار مع تلميحات متقطعة أشارت إلى عدم استبعاد اللجوء إلى خيارات خشنة لتفكيك الأزمة عسكريا مع أديس أبابا، وهو ما نفته القيادة المصرية لاحقا.

جاءت التدخلات المصرية خاطفة ومحدودة ومنضبطة في ليبيا واليمن ووفقا لاعتبارات دولية، وكان الحرص ظاهرا لتجنب إرسال قوات للاشتباك على الأرض في الحالات النادرة التي حدث فيها تدخل عسكري في الدولتين، وعدم الإيحاء بوجود نوايا للحسم مباشرة في أي من الأزمات والصراعات التي تحيط بالبيئة المصرية.

تقيم القاهرة رؤيتها في العمل العسكري الخارجي على مجموعة رئيسية من المحددات التي يمكن القول إنها لعبت دورا مهما في كبح التدخل المباشر في المحكات التي تواتر حولها الحديث خلال السنوات الماضية.

الأول: أن المعدات العسكرية المتطورة في الجيش للدفاع عن الأمن القومي المباشر وليس للتدخل في الدول الأخرى، واللجوء إليها يتم في حالة وجود خطر داهم فعليا وليس محتملا، ولذلك تركزت الكثير من عناصر الحماية، من نشر قوات وإنشاء مطارات وقواعد عسكرية قريبة من المناطق الملتهبة والمتوقع أن يأتي منها الخطر بغرض التعامل معه سريعا، ما يرمي إلى توظيفها كقوات ردع وليس تدخلا.

الثاني: التغير الحاصل في العقيدة العسكرية، فقد حصلت تدخلات عديدة في عهد الرئيس الأسبق جمال عبدالناصر، وأرسلت مصر قواتها إلى دول في أميركا اللاتينية، ناهيك عن دول أفريقية واليمن، وكانت نتيجتها مخيبة للآمال العسكرية والاقتصادية والسياسية، ما أوجد قناعة بتجنب تكرارها لمنع حدوث خسائر على مستويات مختلفة.

الثالث: اتساع نطاق الاقتناع بأن هناك استهدافا خارجيا لمصر، وأن بعض القوى الإقليمية والدولية التي حاولت إحداث تغييرات جذرية في التركيبة الجيوسياسية للدولة أثناء ثورات الربيع العربي، وفشلت، يمكنها أن تحقق هذا الهدف بمجرد خروج قوات عسكرية للتدخل في أي دولة مجاورة، وإدخالها حرب استنزاف طويلة، ومستنقعا يأكل الأخضر واليابس في مصر، حيث توضع أمام القوات العسكرية مطبات تمنعها من التراجع.

تتعزز هذه الرؤية مع اليقين بأن كل الدول التي كانت مرشحة للتدخل فيها مليئة بصراعات قوى خفية، وحافلة بميليشيات ومرتزقة وجماعات مسلحة تقاتل لحساب جهات خارجية متباينة ووسط رمال متحركة، تستطيع وضع عراقيل متنوعة أمام القوات المسلحة المصرية تحول دون تمكينها من السيطرة أو الانسحاب.

أسهم الشعور بالتربص في فرملة أي توجه نحو التدخل العسكري، وقصر الصرامة والحسم على الخطاب السياسي، وعدم الخروج عن نطاق التلويح فقط وقت اللزوم، وبقدر ما ساعد ذلك على تجنب القاهرة التدخل وتوابعه، بقدر ما منح منافسيها وخصومها ارتياحا بأنها لن تتدخل مهما تزايدت التحديات والنزاعات والحروب في المحيط الجغرافي القريب منها، ما طمأنهم للتمادي في تصوراتهم المسلحة.

المحدد الرابع: ضرورة البناء في الداخل وتقوية البيئة المحلية عسكريا واقتصاديا واجتماعيا، كعاصم يمنح فرصة للقيادة السياسية لمواجهة التحديات الإقليمية، فالتدخلات في ظل بيئة داخلية هشة تسبب متاعب جمة، ولا تزال مسألة البناء غير مكتملة وأمامها أشواط، ما وضع خيار التدخل العسكري على الرف إلى أجل غير مسمى.

لم تكن هذه المدرسة سائدة في مصر سابقا، فالثابت أن أمنها القومي تبدأ حمايته من الخارج وليس العكس، وكل التهديدات التي تعرضت لها الدولة لم تكن من الداخل، ويؤدي قلب هذا المنهج إلى زيادة الأعباء، ففي ظل الترهل الحاصل في الدول العربية الأربع ذات الأهمية الكبيرة لن تكون القاهرة بمنأى عن الارتدادات الحاصلة فيها.

لعل النتائج التي ترتبت على الصراعات المحتدمة في هذه الدول وعدم التدخل العسكري من قبل مصر لم يوفرا الأمان الكامل، ولا تزال هناك مخاطر قد تطالها، فمع صعوبة السيطرة على النزاعات وعدم التوصل إلى خيارات سياسية جيدة سوف تظل القاهرة عرضة لتحمل تكاليف باهظة لما ينجم عن الحروب والنزاعات في هذه الدول.

وهذا لا يعني أن التدخل العسكري من الخيارات التي تقلل هذه التكاليف وتحمي الأمن القومي، لكنه سوف يجعل مصر على المدى المتوسط قوة غير مؤثرة في المحيط الإقليمي، وعلى الرغم مما تملكه من تفوق عسكري كبير وضعها في مصاف الدول الكبرى في مجال التسليح، إلا أن الانكفاء على الداخل، والاكتفاء بمتابعة الصراعات بالأدوات الاستخباراتية، قد يحرمانها من زيادة نفوذها في المستقبل.

تبدو الأزمة مركبة مع غيابها سياسيا، أو محدودية دورها للمشاركة في التسويات والمبادرات والوساطات، في الكثير من الأزمات، وترك مساحة لقوى أخرى لملء فراغ سدته القاهرة بنجاح في حقب سابقة وخوّل لها القيام بأدوار رئيسية في المنطقة.

قد يكون المنهج المصري في عدم التدخل العسكري له مبرراته وتفسيراته ومتطلباته وأهدافه لدى قيادتها الحالية وأبعد عنها أزمات مضنية، لكنه كبّلها ووضعها في موقف من يراقب عن بعد ويكتفي بالتعامل مع ما يقدمه الآخرون من اجتهادات وتصورات عملية، وهنا تكمن الخطورة بالنسبة إلى مصر كدولة لم تعتد كثيرا على الانزواء.

العرب اللندنية

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى