محمد علي باشراحيل.. أيقونة عدن ومؤسس صحفها

>
د. عبدالله المدني
د. عبدالله المدني
​يعد محمد علي باشراحيل، رمزاً من رموز الإصلاح والتنوير والسياسة والتشريع والصحافة في عدن، والجنوب العربي بصفة عامة، بل حفر الرجل اسمه في تاريخ بلاده، بسبب أنشطته المتنوعة، وعمله في سبيل حرية واستقلال ووحدة الجنوب العربي منذ خمسينيات القرن العشرين، غير آبه بالمعوقات الكثيرة التي اعترضت طريقه أو هددته في حياته ولقمة عيشه. وتميزت حياته بالانشغال بقضايا «العدننة» والعروبة، وغيرها من القضايا ذات التأثير في حياة ناسه، كما تميز بتصديه لقضايا الحداثة وتنوير المجتمع وتحريره، والارتقاء به بطرق عقلانية، عبر استخدام الكتابة الصحافية، ونشر المؤلفات، والمشاركة في الفعاليات والمنتديات. لذا، ليس كثيراً عليه لو وصفناه بأيقونة عدن، الميناء الذي انفرد بميزات خاصة، بفضل موقعه الجغرافي، واحتكاكه المبكر مع العالم الخارجي، وما زرعته الإدارة البريطانية فيه من قيم الحداثة والتمدن، ومؤسسات المجتمع المدني، عبر حكمها طيلة 129 عاماً.

كتب عنه الباحث الدكتور قاسم المحبشي بصحيفة «عدن الغد» (2017/12/29)، فوصفه بـ «مثقف عاش تجربته الثقافية لحظة بلحظة، ونبعت أسئلته من موقف شخصي ملتزم، ووعي عميق بالذات وبالآخر. نجد في نصوصه نزوعاً متقداً ورغبة جامحة في اقتحام دروب الفعل والممارسة، ومناوشة مشكلات الحياة الواقعية للعدالة والحرية والتعليم وحقوق الإنسان، وحرية المرأة، في وطنه وفي العالم، إذ كان مسكوناً بهاجس البحث عن الأسئلة التي تستوجب الطرح والنقاش، وعن المسكوت عنه، بما يستجيب لمقتضيات الواقع العربي والعالمي. لذا، جاءت تجربته الوطنية السياسية والإعلامية، مفعمة بالحياة، لأنها نابعة من قلب مثقف قلق، حنكته الصعاب، وأنضجته التجارب، وصقلته الممارسة، وهذبته الآداب والعلوم». وقال عنه محمد سالم باسندوه، الذي عرفه منذ عام 1948، وربطته به صداقة عمر، في ذكرى وفاته الـ 15 سنة 2008، إن كل شيء فيه كان يدل على الاستقامة وعزة النفس وكرم الخلق وطيب المعشر وخفة الدم، وأناقة اللباس والتصرف. وأضاف: «لم أره يوماً هازلاً أو مبتذلاً، أو أسمع منه لفظاً جارحاً. كانت الابتسامة لا تفارق شفتيه».

ولد «محمد علي عبد الله عمر باشراحيل»، في حي العيدروس بكريتر في عدن، في الرابع من أبريل 1919، لأب «حضرمي»وأم يافعية هي السيدة «لوله بنت حسن خالد». وبدأ تلقي جرعاته الأولى من التعليم من خلال الكتاتيب التقليدية في عدن، فأحسن القراءة والكتابة، وتعلم مبادئ الحساب، ثم انتقل للدراسة في مدرسة خرّجت جهابذة عدن، وهي مدرسة البعثة التبشيرية الدانماركية، بحي العيدروس.

بسبب الظروف المعيشية الصعبة لأسرته، اضطر أن يخرج إلى سوق العمل مبكراً. ففي الرابعة عشرة من عمره، وتحديداً في عام 1935، التحق للعمل بشركة البرق واللاسلكي، كمتدرب على جهاز وشفرة مورس لإرسال المعلومات تلغرافياً. وبسبب موقع عمله بحي التواهي، انتقل والداه إلى هناك للإقامة إلى جواره. وفي عام 1941، قرر باشراحيل الزواج، فاقترن بـ «سعيدة محمد عمر الشيبة/جرجرة»، التي شاركته مسيرته، وكانت خير سند وعون له. وقتها طلب صاحبنا من رؤسائه في شركة البرق واللاسلكي البريطانية، أن يمنحوه إجازة غير مدفوعة، إلا أن طلبه قوبل بالرفض، فما كان منه إلا تقديم استقالته. وكان البديل المتاح وقتذاك، هو أن يعمل من داخل منزله في أعمال الترجمة وكتابة الرسائل التجارية بمقابل، لمن يريد من رجال الأعمال والشركات. وقامت زوجته الشابة بتحمل جزء من أعباء الأسرة وتكاليف المعيشة، من خلال بيع الأقمشة وخياطة الملابس.

في خمسينيات القرن العشرين، وباعتباره أحد الطلائع المتعلمة والمستنيرة، اختير من قبل زملائه لرئاسة «نادي الإصلاح العربي»، بعد أن كان نائباً لرئيس النادي، علماً بأن هذا النادي تأسس سنة 1929، من قبل عدد من مثقفي عدن وشبابها، بهدف محاربة الخرافات والجهل والعادات الدخيلة على المجتمع، ورفع مستوى الأخلاق الفاضلة، ونشر العلوم والمعارف، وتنشيط الحركة الثقافية، والسعي لتوظيف العاطلين في الدوائر الحكومية والخاصة، ورفع مطالب السكان الإصلاحية إلى حاكم عدن البريطاني، والسعي لإرسال الطلبة إلى الخارج، والضغط لإنشاء مدارس للفتيات والفنون والحرف والصناعات، وغيرها. وكان باشراحيل قد شارك قبل ذلك في تأسيس «حلقة شوقي» الأدبية في عدن سنة 1942، والتي كانت عبارة عن كيان ثقافي، يهدف إلى رفع مستوى الثقافة والأدب والوعي الاجتماعي.

أما سنة 1951، فقد شهدت مشاركته في تأسيس «حزب الرابطة»، إلى جانب نفر من الصفوة العدنية المثقفة، من أمثال محمد علي الجفري وشيخان الحبشي وسالم الصافي وأحمد عبده حمزة ورشيد الحريري. وقد شغل باشراحيل في هذا الكيان السياسي، عضوية لجنته التنفيذية، ثم راح يرتقي سلالمه، حتى وصل إلى منصب نائب الرئيس.

وفي الفترة من عام 1952 إلى 1958، وانطلاقاً من عشقه للعمل العام الهادف إلى خدمة وطنه ومجتمعه وناسه، اقتحم العمل البلدي، من خلال حصوله على عضوية المجلس البلدي لعدن، حيث كانت حكومة مستعمرة عدن قد شرعت منذ عام 1949، في إجراء انتخابات بلدية، لاختيار ثلاثة من أعضاء المجلس عن طريق الانتخاب، وأربعة عن طريق التعيين المباشر، للقيام بمهام الإشراف والمراقبة على خدمات الصحة والطرق والبناء والترفيه والأسواق. ومما لا شك فيه، أن مشاركته في أعمال المجلس البلدي، بل توليه رئاسته، أكسبته الخبرة، معطوفة على جرعات إضافية من محبة الناس، فأقدم على ترشيح نفسه في أول انتخابات تشريعية عدنية في عام 1955، ففاز، وأصبح أحد أعضائه العرب التسعة من بين 12 عضواً، حيث كان البرلمان مكوناً من 12 مقعداً (9 للعرب العدنيين، ومقعدان للصوماليين العدنيين، ومقعد واحد للهنود العدنيين).

أبلى باشراحيل بلاء حسناً في البرلمان العدني، من خلال عضويته في اللجان العاملة، مثل اللجنة المالية ولجنة الأراضي، وأنجز عدداً من المكاسب الموثقة للصالح العام، أبرزها المطالبة بجعل العربية لغة رسمية للبلاد، فرضخت الإدارة البريطانية، وجعلتها لغة رسمية، إلى جانب الإنجليزية، وهو ما جعله محط الأنظار، فدعي ليكون عضواً في مجلس أمناء «مدرسة بازرعة الخيرية الإسلامية»، التي تعد من أقدم مدارس عدن، والتي أنشأها سنة 1912، الشيخ محمد عمر بازرعة في كريتر، وخرجت أجيالاً من الطلبة. دخل باشراحيل أيضاً مجال الإعلام، وكانت خطوة البداية من خلال مشاركته مع زوجته في برامج إذاعة عدن، التي تأسست في 17 أغسطس عام 1954، تحت اسم «محطة عدن للإذاعة»، كأول محطة من نوعها لتقديم خدمات إذاعية في مستعمرة عدن والمحميات البريطانية، وكثاني محطة إذاعية في الوطن العربي، من بعد الإذاعة المصرية.

بعد ذلك، فطن الرجل إلى أهمية الصحافة ودورها في تنوير العقول، وتنشيط الحركة الثقافية والإبداعية، ونقل كل ما هو حديث ومثير من أخبار وتطورات لشعبه، فطرق باب العمل الصحافي، بتأسيس صحيفة أطلق عليها أسم «الرقيب» (صدر عددها الأول في 29 أكتوبر 1955)، وكان نصفها الأيمن باللغة العربية، ونصفها الأيسر باللغة الإنجليزية. غير أنه شعر بعد ثلاث سنوات، بأن عليه إصدار صحيفتين، واحدة بالعربية وأخرى بالإنجليزية، التي كان يجيدها ويهتم بها، ويقرأ آخر إصداراتها، فأطلق صحيفة «الأيام»، وشقيقتها صحيفة «ريكوردر» (recorder) اليوميتين المستقلتين، في السابع من أغسطس 1958، من مبنى كان يضم مسكنه، ولهذا المسكن قصة، وجدتها منشورة في صحيفة «الأيام» العدنية، ومفادها أن باشراحيل حينما كان يترأس المجلس البلدي، حصل على قطعة أرض ليبني فوقها مسكنه الخاص، لكن أوضاعه المالية حالت دون التنفيذ، إلى حد أنه يأس، وكاد أن يعيد قطعة الأرض، لولا أن الله قيض له صديقه الشيخ عبد الله صالح المحضار، الذي اقترح عليه أن يمنح الأرض للشيخ المقتدر محمد عوض باوزير، ليبني عليها فيلتين، واحدة لنفسه والأخرى لباشراحيل. وحول خط الصحيفتين، اللتين أطلقهما الرجل، وتعرضتا للمتاعب والتضييق والإغلاق في فترات مختلفة، سواء أثناء الحقبة الاستعمارية أو بعدها، قال الدكتور مسعود عمشوش مدير مركز الدراسات الإنجليزية والترجمة بجامعة عدن، في ورقة علمية قدمها خلال فعاليات ندوة عن باشراحيل ومسيرته الصحافية والوطنية، نظمها «مركز عدن للدراسات والبحوث التاريخية والنشر»، سنة 2017، ما مفاده أن صاحبهما «لم يتردد في أن يجعل منهما منبراً لجميع التيارات الوطنية على مستوى عدن والمحميات والوطن العربي بشكل عام».

والحقيقة أن صحيفة «الأيام» عاشت عصرها الذهبي تحت قيادة مؤسسها، مستفيدة من خبراته المتراكمة ورؤاه العقلانية من جهة، ومن ظروف حقبة بروز مؤسسات المجتمع المدني في عدن ما قبل الاستقلال من جهة أخرى، الأمر الذي ساهم في احتلالها موقعاً متميزاً. ولعل ما حققته الصحيفة من نجاحات، هو ما جعل باشراحيل يترك العمل الحزبي، ويركز على العمل الصحافي وتوظيفه في تحقيق تطلعاته الثاقبة، وترجمة أفكاره السديدة. واستمر كذلك حتى دخول عدن والمحميات في صراعات وحروب داخلية، انتهت باستقلال الجنوب العربي عام 1967، وخضوعه لنظام حكم يساري شمولي، منع التعددية الصحافية والملكية الخاصة، وأصدر الأوامر بإغلاق الصحف المحلية وتأميمها. وقتها أدرك باشراحيل وغيره من النخب الوطنية الليبرالية من ساسة وإعلاميين ورجال أعمال، أن الساحة لم تعد تسعهم، وأن التعايش مع الأوضاع الجديدة لم يعد ممكناً، فشدوا الرحال إلى المنافي الاختيارية. وعليه، تخلص باشراحيل من أصول مؤسسته الصحافية من مطابع وأحبار وأوارق وأثاث وأجهزة، وحمل عصا الترحال إلى شمال اليمن، حيث استقر به المقام هناك، حتى قيام دولة الوحدة اليمنية في 22 مايو 1990.

لم يعش الرجل ما حدث لاحقاً من حروب واقتتال في صيف 1994 بين اليمنَيْن. إذ إنه أسلم الروح إلى باريها في صباح يوم 21 فبراير 1993، بمنفاه في صنعاء، ووري جثمانه الثرى في عدن، لتلحقه رفيقة عمره وشريكة نضاله وكدّه، التي توفيت بعدن في 11 ديسمبر 2006.

وربما ما أراح الفقيد في قبره، هو أن إرثه الخالد، ممثلاً في صحيفة «الأيام»، عادت إلى الصدور، من بعد غياب قسري، في السابع من نوفمبر 1990، على يدي نجليه هشام باشراحيل (توفي في ألمانيا بعد صراع مع المرض سنة 2012)، وتمام باشراحيل، حيث بدأت أسبوعية، ثم تدرجت حتى أصبحت يومية، مزدانة بالألوان، ومنتشرة على نطاق واسع.

البيان الإماراتية

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى