رسم خارطة اليمن بالحوار والحروب

> صالح البيضاني:

> ​في العام 2013 توصلت القوى والمكونات السياسية اليمنية إلى صيغة معقدة لاستحداث نظام اتحادي جديد في اليمن يقوم على فكرة تقسيم البلاد إلى ستة أقاليم تتشابه مع بعضها من نواح عديدة، وكانت تلك الفكرة باعتقاد المشاركين في مؤتمر الحوار الوطني الشامل حلا جذريا للعديد من مشاكل وأزمات اليمن المزمنة وفي مقدمتها القضية الجنوبية وقضية صعدة، إضافة إلى قضايا عديدة ظلت حاضرة على مستوى الأزمات اليمنية الصامتة التي كانت محسوسة ولكنها مغيبة ومنسية في ذات الوقت، وعاجزة عن شقّ طريقها إلى سطح المشهد اليمني المكتظ بالأزمات والصراعات.

جاءت فكرة الأقاليم من وجهة نظر القوى السياسية اليمنية كحل نهائي لعقدة هيمنة المركز سواء كان صنعاء أو عدن، وللتعاطي مع شعور جارف لدى مناطق الأطراف اليمنية بالغبن التاريخي والاستحواذ على ثرواتها وهيمنة مناطق بعينها على القرار السياسي والنفوذ العسكري والأمني، كما حملت هذه الفكرة في طياتها حلا للقضية الجنوبية من وجهة نظر تلك القوى والمكونات السياسية التي رأت في تقسيم البلاد إلى ستة أقاليم في إطار اتحاد واحد خيارا أقل فداحة من تحويلها إلى شطرين متنازعين، كما منح هذا الخيار مخرجا لقضية صعدة، عبر حل ما تسمى “مظلومية صعدة” آنذاك والتي يغلب عليها الطابع الثقافي والأيديولوجي من خلال دمج مناطق “شمال الشمال” اليمني في إقليم واحد متجانس مذهبيا واجتماعيا.

كانت فكرة الأقاليم حلا مغريا للهروب من الكثير من التعقيدات والأزمات التي تحاصر اليمن في ذلك الوقت، ولكنها بالرغم من ذلك لم تلب تطلعات الكثير من القوى الصاعدة أو تلك التي خسرت الكثير من امتيازاتها السياسية، وكان في مقدمة الرافضين لفكرة الأقاليم ثلاث قوى مؤثرة، حيث لم يخف الرئيس اليمني الأسبق ورئيس حزب المؤتمر الشعبي العام آنذاك علي عبدالله صالح رفضه لفكرة الأقاليم باعتبارها تمهيدا لتمزيق جغرافيا البلاد وهدما لأهم مشروع سياسي ظل يفاخر به وهو توحيد اليمن. الحوثيون أيضا أبدوا اعتراضهم على فكرة الأقاليم، أولا لأنه تم تصميمها بحيث تحرمهم من أي منفذ بحري في إقليم آزال الذي يضم محافظات الشمال المكتظة بالسكان والفقيرة من الموارد (صنعاء، عمران، ذمار، صعدة)، كما لم يكن هذا المشروع يلبي طموحاتهم السياسية والأيديولوجية التي اتضحت ملامحها بعد ذلك بعام تقريبا عندما اجتاحت ميليشياتهم صنعاء ثم سعت للتمدد جنوبا قبل طردها من الجنوب بإرادة محلية جنوبية تعاضدت مع إرادة إقليمية سعت لكبح جماح هذه الميليشيات المندفعة.

جنوبا لم تكن فكرة الأقاليم تلبي رغبة التيار العريض في الحراك الجنوبي الذي ظل منذ تأسيسه في 2007 يرفع شعار فك الارتباط واستعادة دولة الجنوب إلى حدودها قبل 1990، ولكن مخاوف هذا التيار اتسعت وترسخت بعد إجهاض مخرجات مؤتمر الحوار الوطني واجتياح الحوثيين للجنوب في العام 2015 بشكل أعاد للأذهان اجتياح 1994 الذي كان الحافز الأساس لنشوء الحراك الجنوبي وما تلا ذلك من تداعيات.

في 2015 تلاشت فكرة الأقاليم الستة التي خرج بها مؤتمر الحوار الوطني الشامل وتم دفنها تحت ركام الحرب التي كانت فكرة الأقاليم إحدى أبرز أسبابها الخفية، ولكن هذه الفكرة عادت مجددا خلال السنوات القليلة الماضية، ولكن بصور مختلفة، حيث تبنى المجلس الانتقالي الجنوبي مشروعا لدولة اتحادية، على جغرافيا الجنوب هذه المرة، في صيغة تلبي مخاوف وتحفظات المناطق في هذه الجغرافيا الشاسعة ومترامية الأطراف والتي تشكّل ما يعادل 70 في المئة من مساحة “الجمهورية اليمنية”، وسعى المجلس عبر تبني هذا المشروع لنزع فتيل صراعات قادمة وطمأنة أنصاره وأعدائه على حد سواء في الجنوب بأن شكل الدولة الجنوبية المرتقبة سيلبي طموحات كافة المحافظات والقوى السياسية الجنوبية ويحترم خصوصياتها ويمكنها من ثرواتها وإدارة السلطة والثروة في تلك المحافظات بعيدا عن فكرة الهيمنة المناطقية والدولة المركزية التي عانى منها الجنوبيون سابقا سواء قبل الوحدة مع الشمال أو بعدها.

وفي طيات الصراع اليمني السياسي والعسكري وأبعاده الإقليمية، نهضت مجددا فكرة الأقاليم أو ما يشبه الحكم الذاتي، ولكن بصيغة ثالثة، لم يتضح بعد إن كانت امتدادا لمخرجات مؤتمر الحوار الوطني بأقاليمها الستة، أم استجابة للتحولات المتسارعة في خارطة اليمن الجيوسياسية وتدافع العديد من الأطراف لبسط سيطرتها على وقع ما يبدو أنه انتهاء لحرب اليمن في شكلها السابق التي استمرت لثماني سنين.

وقد نهض المشروع الجديد مع زيارة رئيس مجلس القيادة الرئاسي الدكتور رشاد العليمي إلى حضرموت وتصريحاته التي تحدث فيها عن منح السلطة المحلية في المحافظة كامل الصلاحيات لإدارة المحافظة الغنية إداريا وأمنيا وعسكريا واقتصاديا واعتبار ذلك تجربة يمكن تعميمها على محافظات أخرى، في إشارة لم تتضح بعد أبعادها وهل هي عودة إلى فكرة غائرة تبناها رئيس الوزراء اليمني الأسبق الدكتور عبدالكريم الإرياني في تسعينات القرن الماضي وتمحورت حول حكم محلي كامل الصلاحيات للمحافظات وليس إدارة جزئية وشكلية كما حدث بعد ذلك، وخصوصا أن تصريحات الرئيس العليمي لم تتطرق أبدا إلى مشروع الأقاليم المنبثقة عن مؤتمر الحوار والتي بموجبها أصبحت حضرموت وشبوة والمهرة إقليما واحدا.

أعادت الحرب رسم خارطة القوى إلى حد كبير في شمال اليمن الذي أصبح جله اليوم تحت سيطرة الحوثيين بدون منازع، فيما تؤكد المؤشرات أننا بصدد جولة مشابهة من الصراع ولكن هذه المرة في جنوب اليمن، حيث لم يستطع طرف واحد حتى الآن إحكام سيطرته ورؤيته السياسية حول شكل الجنوب القادم، وإن كان المجلس الانتقالي قد استطاع أن يقطع شوطا لافتا في فرض سيطرته على مساحة مهمة من جغرافيا الجنوب التي يطلق عليها خصومه تسمية “المثلث” في إشارة إلى مناطق نفوذ المجلس في محافظات الضالع ولحج وعدن، والذي يسعى خصومه لمحاصرته في هذا المثلث ومنعه من التمدد شرقا، بل وإغراقه في صراعات حقيقية ومفتعلة في هذه المساحة، بينما لا يزال الحديث عن مستقبل الجنوب وخارطته النهائية مبكرا بعض الشيء في ظل ملامح صراع قادم سيفضي في نهاية المطاف إلى رسم تلك الخارطة جنوبا، كما حدث في الشمال.

العرب اللندنية

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى