آخر تحديث :الإثنين - 29 أبريل 2024 - 05:00 ص

قضايا


الحكم الشرعي لقضاء الديون عند هبوط العملة

الجمعة - 28 أبريل 2023 - 04:08 م بتوقيت عدن

الحكم الشرعي لقضاء الديون عند هبوط العملة

صالح عبدالله المرفدي قاض محكمة نقض

معاملات مدنية

الحكم الشرعي لقضاء الديون عند هبوط العملة

في سؤال لاحد الاشخاص: أنه استدان منه شخصٌ اخر، مبلغًا ماليًا قبل حرب ٢٠١٥ مباشرة، مقداره مليون ريال يمني، ثم انخفض سعر الريال انخفاضًا كبيرًا بسبب الحرب المستمره، والأحداث الجارية في اليمن.. وعلى هذا الأساس يسأل: إذا أعاد لي المال بنفس القيمة، ففي هذا خسارة كبيرة وفادحة لي، فهل يجوز أن أطلب إرجاع الدين بقيمة المال كما أخذه يوم القرض؟؟

# تمهيد:
الأصل ان ردِّ القرض أو السلفه يكونَ بمثلِ العملةِ التي اقترضها وإن تغيَّرت قيمةِ العملة، لكن إن كان التغيُّر في قيمة العملة كثيرًا، فإنَّ هذا ضررٌ بَيِّنٌ، يجب رفعه بالصلح العادل بين الطرفين، فإن لم يصطلحا، فيُرفع ذلك الضرر بالتحكيم أو اللجوء إلى القضاء.

ومن هذا المنطلق، سنتناول في هذة الدراسة الموجزة، للحكم الشرعي لقضاء الديون، وذلك من خلال التطرق لانواع الديون، وبيان مفهوم كل نوع على حده، مع اظهار الحكم الشرعي لكل نوع، ونستعرض في كل نوع وجهة نظرنا المتواضعه في خلاصه نختم فيها هذة الدراسة المختصرة.

#اولا: الدين العيني
ويعني هذا ان الدَّين الثابت في الذمَّة من الأشياء العينية، التي لها قيمة ذاتية ولها ما يماثلها، ومثاله: الأشياء التي تُقدَّر بالكيل أو الوزن أو الذهب والفضه.
- وحكمها الشرعي بالاجماع: على وجوب رد المُثل، دون نظرٍ لتغير القيمة والسعر، بين يوم الدين ويوم السداد.

#ثانيا: دين الأعيان المسروقة والمغصوبة
وتكون كذلك، إذا كان الحق ثابتاً في الذمة؛ بسبب غصبٍ أو سرقةٍ أو مماطلةٍ في أداء الدين.
- ومثاله: سلعة أو بضاعه كانت تساوي خمسين ألفاً، وحجزها السارق أو الغاصب أو المماطل فترة من الزمن، بحيث نقصت قيمتها لو ردها لصاحبها.
- وحكمها الشرعي على قولين:
- الأول: يرد مثلها دون اعتبار لتغيُّر الأسعار، وهذا رأي الجمهور.
- الثاني: بأن الواجب على الغاصب في حال رخص السعر، ضمان نقص السعر، وهذا رأي إلامام أحمد بن حنبل في رواية للشيخ ابن تيمية، وهو راي مماثل للشيخ ابن عثيمين.

والصواب -والله اعلم- هو ترجيح الرأي الثاني، لآن الغاصب قد حال بين صاحبها وبين هذه الزيادة، فيلزمه النقص، وأن ما نقص بالسعر فهو مضمون، كالذي ينقص بالعين أو الوصف، فالغاصب أو السارق أو المماطل معتدٍ، فيتحمل كامل الضرر الناتج عن اعتدائه.

* ثالثا: الدين بالعملات الورقية:
ونفصّل في هذا النوع؛ لانه موضوع السؤال؟ وهي إذا كان الحق الثابت في الذمة، ناشئاً عن معاملة تراضى عليها الطرفان.
- ومثاله: القرض الحسن (السلفه)، أو ثمن المبيع، أو المهر المؤجل.
- وحكمها الشرعي على ثلاثة اقوال:
- الأول: التمسك بالأصل من وجوب ردّ المُثل، مهما كان حجم الانخفاض في قيمة العملة، ما دام التعامل بهذه العملة جارياً بين الناس، وهذا رأي الشيخين ابن باز، وابن عثيمين، والأخير اجتهد زيادة بقوله: "إلا إذا كانت الفلوس قد ألغيت واستبدلت بعملة أخرى، فله أن يطالب بقيمتها في ذلك الوقت، أو بقيمتها حين ألغيت، وأما إذا بقيت العملة على ما هي عليه، فليس للمُقرض إلا هذه العملة، سواء زادت أم نقصت".
- القول الثاني: وجوب ردّ قيمة العملة وقت نشوء الالتزام، أي وقت أخذ الدين، إما من خلال مراعاة القوة الشرائية للنقود، أو مراعاة قيمة النقود بالذهب وقت الدين، وهذا رأي الشيخ الألباني، والشيخ علي القرة داغي، والشيخ وهبة الزحيلي.
- أما القول ‌الثالث: فأكد على أن يؤخذ في مثل هذه الحالات "بمبدأ الصلح الواجب"، بعد تقدير أضرار الطرفين (الدائن والمدين)، أي: يتم التراضي بينهما على مبلغ يدفعه المدين، فاذا كان التضخم عند التعاقد غير متوقع الحدوث وحدث، فيكون وقت السداد لا يخلو حكمه عن ثلاث حالات هي:

- الأولى، حالة الغُبن اليسير: وهي أن يكون النقص يسيرًا، بحيث لا يتعدى العشرة في المئه من نقص قيمتها.
- وحكمها الشرعي: الزام المدين بردّ مثل النقود التي أخذها عدداً، دون زيادة ولا نقصان. وهذه الحاله أخذ بها قرار صادر من مجمع الفقه الإسلامي".
- والحالة الثانيه، حالة الغُبن المعتدل: وهي أن يكون النقص معتدلاً، وقد اجتهد بعض الفقهاء المتأخرين في تحديده، بين مازاد عن العشرة في المئة ولم يصل الى الثلث.
- وحكمها الشرعي: هو تحميل المدين ما نقص من قيمة العملة.
- أما الحالة الثالثة، حالة الغُبن الفاحش: وهي ما كان التغير في قيمة العملة كثيراً "ما زاد عن الثلث"، فقد اختلف العلماء المعاصرون في حكمها الشرعي.
- وفي رأي لمجلة مجمع الفقه الإسلامي يؤكد: "أن ضابط التضخم الكثير، هو أن يبلغ ثلث مقدار الدين الآجل "الغبن الفاحش"، وحكمها الشرعي: هو معالجة ذلك باللجوء إلى الصلح .وذلك باتفاق الطرفين على توزيع الفرق الناشئ عن التضخم بين المدين والدائن بأي نسبةٍ يتراضيان عليها.

- ونميل في رأينا المتواضع الى:
ترجيح القول الثالث، والقاضي بوجوب ردّ القيمة اولاً، أو الصلح بين الطرفين، إذا كان التغير كثيراً يصل إلى الثلث؛ لأن الثلث تم اعتماده فاصلاً بين اليسير والكثير؛ ولأن الشرع اعتبر هذا المقدار "في كثير من المسائل"، حداً فارقاً بين القلَّة والكثرة، كالوصية بالثلث، وتساوي جراح المرأة مع جراح الرجل الى الثلث؛ ولأن الثلث في حد الكثرة، وما دونه في حد القلة، بدليل قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ)، فيدل هذا في اجتهادنا على أنه اخر مقدار أو حد للكثرة، وعلى هذا الأساس، قدرنا هذة النسبه.

وحريًا بنا الإشارة، الى أن القوانين المدنية العربية، تقترب كثيرًا في معالجة قضاء الديون، بنفس الحكم الشرعي لمعالجتها، خاصة إذا كان الدين المتعلق بالذمة دينًا مدني، ومنها القانون المدني اليمني.. وهذا بعكس الدين التجاري، الذي يختلف عن الدين المدني من عدة وجوه، سواءً من حيث سريان القانون النافذ عليه "القانون التجاري"، أو حيث الاختصاص في نظر النزاع، أو من حيث إثبات الدين، أو من حيث نفاذه، أو من حيث طريقة سدادة، سواء بالانفراد أو التضامن، أو بطريقة الاعذار، أو من حيث الخضوع لنظام شهر الإفلاس.

# الخلاصة:
1 - ان الدَّين الثابت في الذمَّة من الأشياء العينية، التي لها قيمة ذاتية ولها ما يماثلها، كالأشياء التي تُقدَّر بالكيل أو الوزن أو الذهب والفضه، فيجب ردّها بالمثل، دون نظرٍ لتغير القيمة والسعر بين يوم الدين ويوم السداد.

2- أن الواجب على الغاصب والسارق والمماطل، ردّ العملة بحسب قيمتها يوم الغصب والسرقة، وإن كان المسروق من الأشياء العينية، فإنه يضمن ما طرأ عليها من نقص في السعر.

3 – في الديون الأخرى وثبوت تحقق الجائحه، يفرق بينها إن كان التغيير يسير أو معتدل أو كثير في قيمة العملة، فإن كان التغيير يسيراً لا يتجاوز العشرة في المئه، فالواجب على المدين ردّ المُثل، وأن كان معتدل لا يصل إلى ثلث قيمة الدين، فالواجب عليه ردّ المثل بقيمته. أما إذا كان التغير كثيراً يصل إلى الثلث فأكثر، فالواجب الصلح بينهما بتوزيع الضرر على الطرفين، لاسيما للديون بين المواطنيين اليمنيين؛ لأن البلد تمر "بجائحة حرب ضروس"، اكلت الاخضر واليابس، ولم تبقي شجر ولاحجر، و اوصلت الوطن والشعب الى أسوء مجاعه في العالم، وهو ما ينطبق على القول الثالث.

4 - اما اذا كان هبوط العمله بفعل تقادم الزمن، "ويعني مرور فترة طويله، بين يوم استلام الدين، ويوم تسليمه"، ولم يكن هناك سبب اجنبي أو جائحه، فأميل الى ترجيح القول الأول الذي ذهب اليه الشيخين "بن باز وبن عثيمين"، ولأن الاصل الشرعي، هو ردِّ القرض أو السلفه، يكونَ بمثلِ العملةِ التي اقترضها، وإن تغيَّرت قيمةِ العملة.

ولعله من المفيد التنويه، في حال إختيار القول الثاني، المؤيد للرجوع في القيمة، فيتم تقديرها بحسب سعر الذهب وقت الدين، أو بحسب قوة النقد الشرائية في ذلك الوقت "أي ما يعادلها من قيمة العملة الصعبه".
هذا اجتهادنا المتواضع، والله أعلم بالصواب.

صالح عبدالله المرفدي
قاض محكمة نقض
دكتوراه القانون الجنائي
جامعة عين شمس